الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أين هذا من قول الأعرابي الذي كشف عن فرجه ليبول، وانتهره أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا.فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لقد حجرت واسعًا». خرّجه البخاريّ والترمذيّ وغيرهما من الأئمة.أترى هذا الأعرابيّ عرف الله بالدليل والبرهان والحجة والبيان؟ وأن رحمته وسعت كل شيء، وكم من مثله محكوم له بالإيمان.بل اكتفى صلى الله عليه وسلم من كثير ممن أسلم بالنطق بالشهادتين، وحتى إنه اكتفى بالإشارة في ذلك.ألا تراه لما قال للسوداء: «أين الله؟» قالت: في السماء.قال: «من أنا»؟ قالت: أنت رسول الله.قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» ولم يكن هناك نظر ولا استدلال، بل حكم بإيمانهم من أوّل وهلة، وإن كان هناك عن النظر والمعرفة غفلة.والله أعلم.الرابعة ولا يكون النظر أيضًا والاعتبار في الوجوه الحِسان من المُرد والنِّسوان.قال أبو الفرج الجوزِي: قال أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبرِيّ بلغني عن هذه الطائفة التي تسمع السماع أنها تضيف إليه النظر إلى وجه الأمرد، وربما زينته بالحلى والمصبغات من الثياب، وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار والاستدلال بالصنعة على الصانع.وهذه النهاية في متابعة الهوى ومخادعة العقل ومخالفة العلم.قال أبو الفرج: وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل لم يُحِلّ الله النظر إلا على صورةٍ لا ميل للنفس إليها، ولا حظ للهوى فيها؛ بل عبرة لا يمازجها شهوة، ولا يقارنها لذّة.ولذلك ما بعث الله سبحانه امرأة بالرسالة، ولا جعلها قاضيًا ولا إمامًا ولا مؤذنًا؛ كل ذلك لأنها محل شهوة وفتنة.فمن قال: أنا أجد من الصور المستحسنة عبرًا كذّبناه.وكل من ميّز نفسه بطبيعة تخرجه عن طباعنا كذبناه، وإنما هذه خُدَع الشيطان للمدّعين.وقال بعض الحكماء: كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير، ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وقال: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].وقد بينا وجه التمثيل في أوّل الأنعام.فعلى العاقل أن ينظر إلى نفسه ويتفكر في خلقه من حين كونه ماء دافقًا إلى كونه خلقًا سَوِيًّا، يُعان بالأغذية ويُرَبَّى بالرّفق، ويُحفظ باللّين حتى يكتسب القُوَى ويبلغ الأشدّ.وإذا هو قد قال: أنا، وأنا، ونسي حين أتى عليه حِين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، وسيعود مقبورًا؛ فياويحه إن كان محسورًا.قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ إلى قوله تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12- 16] فينظر أنه عبد مربوب مكلف، مخوّف بالعذاب إن قصر، مرتجيًا بالثواب إن ائتمر، فيقبِل على عبادة مولاه فإنه وإن كان لا يراه يراه ولا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه، ولا يتكبر على أحد من عباد الله؛ فإنه مؤلف من أقذار، مشحون من أوضار، صائر إلى جنة إن أطاع أو إلى نار.وقال ابن العربيّ: وكان شيوخنا يستحبون أن ينظر المرء في الأبيات الحكمية التي جمعت هذه الأوصاف العلمية:
قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} معطوف على ما قبله؛ أي وفيما خلق الله من الأشياء.{وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} أي وفي آجالهم التي عسى أن تكون قد قربت؛ فهو في موضع خفض معطوف على ما قبله.وقال ابن عباس: أراد باقتراب الأجل يوم بَدْر ويوم أُحُد.{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي بأيّ قرآن غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون.وقيل: الهاء للأجل، على معنى بأيّ حديث بعد الأجل يؤمنون حين لا ينفع الإيمان؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف. اهـ.
{وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} والمعنى ولعل أجلهم يكون قد اقترب فيموتوا على الكفر قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى النار وإذا كان الأمر كذلك وجب على العاقل المبادرة إلى التفكر والاعتبار والنظر المؤدي إلى الفوز بالنعيم المقيم {فبأي حديث بعده} يعني القرآن {يؤمنون} يعني يصدقون.والمعنى فبأي كتاب بعد الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون وليس بعد محمد نبي ولا بعد كتابه كتاب لأنه خاتم الأنبياء وكتابه خاتم الكتب لانقطاع الوحي بعد محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.
{وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} و{أن} معطوف على {ما} في قوله و{ما خلق} وبخوا على انتفاء نظرهم في ملكوت السموات والأرض وهي أعظم المصنوعات وأدلتها على عظمة الصانع ثم عطف عليه شيئًا عامًا وهو قوله وما خلق الله من شيء فاندرج السموات والأرض في ما خلق ثم عطف عليه شيئًا يخصّ أنفسهم وهو انتفاء نظرهم وتفكرهم في أنّ أجلهم قد اقترب فيبادرهم الموت على حالة الغفلة عن النظر في ما ذكر فيؤول أمرهم إلى الخسار وعذاب النار نبههم على الفكر في اقتراب الأجل لعلهم يبادرون إليه وإلى طلب الحق وما يخلّصهم من عذاب الله قبل مقانصة الأجل وأجلهم وقت موتهم، وقال الزمخشري: يجوز أن يراد باقتراب الأجل اقتراب الساعة {وأن} هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف ضمير الشأن وخبرها عسى وما تعلقت به وقد وقع خبر الجملة غير الخبرية في مثل هذه الآية وفي مثل: {والخامسة أن غضب الله عليها} فغضب الله عليها جملة دعاء وهي غير خبرية فلو كانت {أن} مشددة لم تقع {عسى} ولا جملة الدعاء لها لا يجوز علمت أن زيدًا عسى أن يخرج ولا علمت أن زيدًا لعنه الله وأنت تريد الدعاء وأجاز أبو البقاء أن تكون {أن} هي المخففة من الثقيلة وأن تكون مصدرية يعني أن تكون الموضوعة على حرفين وهي الناصبة للفعل المضارع وليس بشيء لأنهم نصوا على أنها توصل بفعل متصرّف مطلقًا يعنون ماضيًا ومضارعًا وأمرًا فشرطوا فيه التصرّف، و{عسى} فعل جامد فلا يجوز أن يكون صلة لأن و{عسى} هنا تامة وأن يكون فاعل بها نحو قولك عسى أن تقوم واسم {يكون}.قال الحوفي: {أجلهم} وقد اقترب الخبر، وقال الزمخشري وغيره: اسم يكون ضمير الشأن فيكون {قد اقترب أجلهم} في موضع نصب في موضع خبر {يكون} و{أجلهم} فاعل باقترب وما أجازه الحوفي فيه خلاف فإذا قلت كان يقوم زيد فمن النحويين من زعم أنّ زيدًا هو الاسم ويقوم في موضع نصب على الخبر ومنهم من منع ذلك ويجعل في ذلك ضمير الشأن والجواز اختيار ابن مالك والمنع اختيار ابن عصفور وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة التقسيم والدلائل في شرحنا لكتاب التسهيل.{فبأي حديث بعده يؤمنون} معنى هذه الجملة وما قبلها توقيفهم وتوبيخهم على أنه لم يقع منهم نظر ولا تدبّر في شيء من ملكوت السموات والأرض ولا في مخلوقات الله تعالى ولا في اقتراب آجالهم ثم قال: {فبأيّ حديث} أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم إذ لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة ونحوه قول الشاعر: والمعنى إذا لم أقاتل عن نفسي فكيف أقاتل عن غيرها ولذلك إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث الذي هو الصدق المحض وفيه نجاتهم وخلاصهم فكيف يصدقون بحديث غيره والمعنى أنه ليس من طباعهم التصديق بما فيه خلاصهم والضمير في {بعده} للقرآن أو الرسول وقصته وأمره أو الأجل إذ لا عمل بعد الموت أقوال ثلاثة.قال الزمخشري: فإن قلت: بم يتعلق قوله: {فبأي حديث بعده يؤمنون}، قلت: بقوله: {عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت ما ينتظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا. اهـ.
|